الاخلاق والحضارة
ــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق- 28-4-2019
تلعب الأمراض الاجتماعية والآفات الأخلاقية دوراً بارزاً في تقويض عرى الحضارات الإنسانية المختلفة؛ فقد أقامت العديد من الأمم السابقة آيات من البناء المادي، وشيدت منجزات حضارية هائلة سرعان ما بادت وانحسرت بتمحورها حول القطب المادي وإغفالها للقيم الروحية والمثل الأخلاقية ودورهما الهام في عملية البناء الحضاري.فلم يشهد التاريخ مصرع حضارة فتية المثل والقيم، سليمة من الآفات والعلل الاجتماعية والأخلاقية، ولكنه شهد عدداً من مصارع حضارات وأقوام أفلست أخلاقياً واجتماعياً ودينياً، فحق عليها قول التدمير وكلمة الفناء الأزلي، ولم تغن عنها محصلاتها المادية.
فالقوى المادية ـ وإن كانت تعد من أسباب التحضر والتقدم ـ إلا أنها قد تكون كذلك من عوامل التخلف والشقاء إذا ما قامت الأمم والشعوب بتحويلها إلى أسباب غرور وتفاخر وتسلط وظلم لمن حولها، وتهميش كل ما وراء ذلك.
فالفساد والانحراف لا بد أن تجنيه الأمم تردياً وأفولاً وانحساراً في حضارتها، وتلك سنة الله في الأمم؛ ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
والانحراف الأخلاقي من أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله وتحول عافيته وفجاءة نقمته؛ فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}.[الشورى: 30].
إن الإنسان ينزع دوما نحو الإستقرار وأسبابه من حضارة وسلم وما بعده الأمم من عدة وعدد إنما هو لردع كل من يحاول أن يعرض إستقرارها للخطر, ومن هنا قد يتولد الإنحراف عن الحروب والهجرات الجماعية والمحتشدات وما تحثه من إهتزاز في القيم وعدم التلائم بين الفرد وبيئته الجديدة ولهذا كان حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكون فتح مكة سلمياً وأن يبرم هدنة الحديبية توفيراً للأمن والإستقرار وإقتصاداً في الأرواح والأموال.
إن الأصل في المجتمعات البشرية أن يسودها العدل الذي يأخذ من كل فرد طاقته ويعطي كل فرد حقه وما يستحقه حتى لا يحول الوضع الإجتماعي للفرد دون تفتح شخصيته, ولكن عندما يغيب سلطان العدل والأخلاق عند ذلك تختل الموازين فينقسم المجتمع إلى طبقات بعضها محروم من كل شيء والبعض الآخر يتمتع بكل شيء. وما نلاحظ من إختلال في التوازن بين الطبقات والشعوب ليس وليد حتمية طبيعية أو بخل في الطبيعة, فالله قد خلق من الخيرات ما يسد حاجات البشر ولكن أنّا يتحقق العدل وقد سلم المسلمون زمام أمر الإنسانية للمستكبرين الظالمين!!
وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)إبراهيم
إن الحضارة هي الشكل الأكثر أصالة وواقعية للمجتمع البشري، فهي نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وتتكون من عناصر أربعة هي: الموارد الاقتصادية، النظم السياسية، التقاليد الخلقية، العلوم والفنون
إن المظاهر الحضارية لكل أمة هي نتائج ملائمة لمجموعة الأفكار والعقائد والتقاليد والعوامل النفسية المهيمنة عليها، وذلك لأن لكل حضارة من الحضارات الإنسانية أسس فكرية ونفسية، شكلت الدافع الرئيسي والقوة الموجهة والمحددة لنمط سيرها.
وقد سعى الفلاسفة بدورهم إلى وضع قوالب تصب فيها أخلاق الإنسان الفاضل على نحو ما تصوروه في ذلك الوقت، حيث كان ينظر إليه على أنه (مجموعة قوى ذات مطالب يناقض بعضها البعض، ويقوم بينها حرب شعواء لا تنتهي إلا بانتصار بعضها واستسلام البعض الآخر عنوة)، فقد كان الإنسان نفسه، كما ستقول الأديان فيما بعد، يتألف من جسد وروح، أما الجسد فهو الجانب المادي فيه، وأما الروح فهي الجانب المقدس، ومن هنا كانت المشكلة في أن يجعل الروح هي المسيطرة، وهي القائد، وأن يجعل العقل هو القاهر لكل نوازع الجسد.
الحضارة الإسلامية فهي الحضارة التي تشتمل أسسها الفكرية والنفسية على حاجات الحياة كلها من مختلف جوانبها الفكرية والروحية والنفسية والجسدية والمادية الفردية والاجتماعية، وفي جميع المجالات العلمية والعملية.
لذلك فقد كانت تمنح الأمم التي تلتزم بها وتسير على نهجها سيراً قوياً، الصورة المثلى للحضارة الإنسانية الراقية.
وقد استطاعت أسس هذه الحضارة ووسائلها ومناهجها أن تدفع الأمة الإسلامية في حقبة من الدهر للارتقاء في سلم الحضارة المجيدة المثلى، على مقدار التزامها بأسسها ووسائلها ومنهجها السديد، وكانت نسبة الارتقاء الذي أحرزته هذه الأمة نسبة مدهشة إذا ما قيست بالزمن والطاقات التي تيسرت لها حينذاك، واستمرت في ارتقائها المدهش حتى أدركها الوهن والانحراف عن هذه الأسس ووسائلها الفعالة ومنهجها السديد..
لقد ساد تصور غير أخلاقي للحضارة، يطرح فكرة أن كل أعراض الانحلال هي أعراض شيخوخة، والحضارة، شأنها شأن أية عملية نمو، لا بد أن تبلغ نهايتها بعد مرور فترة معينة من الزمن، ولهذا فليس لدينا ما نعمله غير أن نسلم بأن أسباب هذا الانحلال هي أسباب طبيعية تماماً، وعلينا أن نفعل ما في وسعنا للإفادة من ظاهرة شيخوختها هذه الأليمة، التي تشهد بأن الحضارة تفقد تدريجياً طابعها الأخلاقي.
فإذا تساءلنا ماذا كانت نتيجة هذا التخلي عن التصور الأخلاقي للحضارة، وماذا كان مصير كل المحاولات التي بذلت من أجل الربط بين الواقع وبين المثل الأخلاقية الناجمة عن التأمل؟ كانت النتيجة أنه بدلاً من استخدام الفكر لإنشاء المثل التي تناسب الواقع، تركنا الواقع بغير مثل على الإطلاق، وبدلاً من أن نناقش معاً العناصر الأساسية، مثل السكان، والدولة، والمجتمع، والتقدم – وهي التي تحدد طابع تطورنا الاجتماعي وتطور الإنسانية عامة – قنعنا بالابتداء مما تعطيه التجربة، ولم يعد يدخل في الاعتبار غير القوى والميول التي تعمل، والحقائق الأساسية والمعتقدات التي كان يجب أن تحدث إلزاماً منطقياً أو أخلاقياً لم نعد نعترف بها، ورفضنا أن نعتقد بأن الأفكار يمكن أن تطبق على الواقع إلا إذا كانت مستمدة من التجربة، وهكذا فإن المثل التي أنزلت قصداً وبعلم إلى مستوى أدنى أصبحت تسود حياتنا الروحية والعالم كله.
وبالتخلي عن المثل الأخلاقية التي تصاحب حماستنا للواقع لا تتحسن قدرتنا العملية، ولكن بما أن العنصر الأخلاقي هو العنصر الجوهري في الحضارة، فإن الانحلال يستحيل إلى نهضة بمجرد أن يعود النشاط الأخلاقي إلى العمل من جديد في معتقداتنا وفي الأفكار التي نحاول أن نطبع بها الواقع، والقيام بهذه المحاولة أمر جدير بالسعي إليه، ويجب أن يمتد ليشمل العالم كله.
صحيح أن الصعوبات التي تواجه هذه المحاولة صعوبات شاقة لا يقوم بمواجهتها إلا الإيمان الوثيق بقوة الروح الأخلاقية، إلا أنه علينا أن لا نتوانى أبداً في مواجهة هذه الصعوبات، والتمسك حتى النهاية بالضوابط الأخلاقية؛ لأن ارتقاء قمم الحضارة المثلى رهنٌ - أبد الدهر - بالتزام الأسس السديدة ووسائلها ومنهجها.
مما لا شك فيه أن حضارات الأمم تبنى بالأخلاق والقيم وأن انهيارها مرتبط بالانحلال والانحراف عن منهج الله الواحد الأحد.
يقول ابن خلدون: «اذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها، وهذا ما حدث في الأندلس وأدى في ما أدى الى ضياعه».
وأدرك هذه الحقيقة أيضًا أحد كتاب النصارى واسمه «كوندي» حيث قال: «العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل الى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات»، وصدق الله العظيم القائل: (وَاِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) [الإسراء:16].
من المسلَّم به أن الحضارة دائمة التنقل، وهي مشاع بين الناس لا يحتفظ بها إلا الأقوى والأجدر، فإذا ما أصابه الوهن أو انتابه الضعف ولت سراعًا، ومن هنا كان للعرب والمسلمين الأوائل جهدهم وفضلهم في الدفع بعجلة الحضارة إلى الأمام، وقد شهد المنصفون من الغربيين لعلماء العرب والمسلمين بما قدموه من إنجازات أسهمت في رقي المدنية وتقدم الحضارة >>>
تلعب الأمراض الاجتماعية والآفات الأخلاقية دوراً بارزاً في تقويض عرى الحضارات الإنسانية المختلفة؛ فقد أقامت العديد من الأمم السابقة آيات من البناء المادي، وشيدت منجزات حضارية هائلة سرعان ما بادت وانحسرت بتمحورها حول القطب المادي وإغفالها للقيم الروحية والمثل الأخلاقية ودورهما الهام في عملية البناء الحضاري. فلم يشهد التاريخ مصرع حضارة فتية المثل والقيم، سليمة من الآفات والعلل الاجتماعية والأخلاقية، ولكنه شهد عدداً من مصارع حضارات وأقوام أفلست أخلاقياً واجتماعياً ودينياً، فحق عليها قول التدمير وكلمة الفناء الأزلي، ولم تغن عنها محصلاتها المادية. فالقوى المادية ـ وإن كانت تعد من أسباب التحضر والتقدم ـ إلا أنها قد تكون كذلك من عوامل التخلف والشقاء إذا ما قامت الأمم والشعوب بتحويلها إلى أسباب غرور وتفاخر وتسلط وظلم لمن حولها، وتهميش كل ما وراء ذلك. فالفساد والانحراف لا بد أن تجنيه الأمم تردياً وأفولاً وانحساراً في حضارتها، وتلك سنة الله في الأمم؛ ولن تجد لسنة الله تبديلاً. والانحراف الأخلاقي من أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله وتحول عافيته وفجاءة نقمته؛ فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}.[الشورى: 30].
المعاصي والانحراف سبب الهبوط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تغير أحوال الأمم والحضارات من الصعود والرقي إلى التدهور والانحسار لا يكون إلا بتغيرهم وتوجههم نحو المعاصي وارتكاسهم في الانحراف والابتعاد عن منهج الله وفطرته. قال ـ تعالى ـ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]. فقد أخبر الله ـ تعالى ـ أنه لا يغير نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه، فإذا غير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، كان الهبوط والتردي جزاءً وفاقاً. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [الرعد: 11].
الانحراف سبب عدم النهوض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ إن الانحراف الأخلاقي ليقطع على الأمم طريق النهوض والإقالة من العثرات كذلك؛ فإن نعم الله لا تستجلب إلا بطاعته، كما أن النقم تستجلب بمعصيته والانتكاس عن طريقه؛ فالخالق ـ سبحانه ـ اختط للأمم سنناً في النهوض والبقاء كما وضع لها سنناً وقوانين أخرى في الهبوط والزوال؛ فإذا وظفت الأمم نعم الله عليها من تقدم وتطور في ميادين الحياة المختلفة في معصيته والانحراف عن هديه انقلبت تلك النعم إلى آفات تبطل أعمالها، وتحطم منجزاتها، بل وتكون سائقها إلى سبيل الأفول والانحسار. فاستعمال النعم في معصية الخالق ـ جل وعلا ـ من أهم أسباب زوالها وتحـولهـا. يقـول ابن القيـم ـ رحمه الله ـ: "إذا أراد الله حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها. ومن العجب علم العبد بذلك مشاهدة في نفسه وغيره، وسماعاً لما غاب عنه من أخبار من أزيلت نعم الله عنهم بمعاصيه وهو مقيم على معصية الله كأنه مستثنى من هذه الجملة أو مخصوص من هذا العموم"ا.ه.
غياب الوعي
ــــــــــــــ إن غياب الوعي بسنن الله في الأنفس والحضارات وأثر الانحراف الأخلاقي في أفولها وانهيارها لا يمكن أن يسوق إلا إلى مزيد من العثرات والانحدارات التي تمهد بدورها السبيل أمام الانحسار التام والسقوط المطبق؛ فالصعود الحضاري في حياة الأمم والشعوب لا يطرأ عليه تغير أو هبوط إلا في حالة سعي تلك الأمم ذاتها في استجلاب ذلك التغيير من خلال انحرافها وحيدتها عن طريق الفطرة الإنسانية وانتكاسها في طريق الضلال.
ولله در القائل: إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
الاندلس نموذج للانحراف الاخلاقي
ــــــــــــــــــــــــــــــــ أن أهم عوامل سقوط بلاد الأندلس هو العامل الأخلاقي، وسقوط الأندلس بدأت معالمه ومظاهره قبل سقوط غرناطة بوقت مبكر، وذلك بعد أن قام على أنقاض الدولة الأموية بالأندلس العديد من الدويلات الاسلامية المتناحرة المتنازعة.
ومما ينبغي التنبه له أن الضعف التدريجي للمسلمين في الأندلس الذي أدى الى خروجهم من تلك الديار لم ينشأ من فراغ كما لم يكن وليد يوم وليلة، بل كان نتيجة لعدة عوامل وأسباب يمكن اجمالها في ما يلي:
(1) انحراف كثير من مسلمي الأندلس عن منهج الله.
(2) موالاة العدو النصراني والتخلي عن الجهاد.
(3) التفرق والتشرذم.
(4) تكالب القوى النصرانية عليهم.
ويعتبر الضعف الخلقي عند المسلمين في الأندلس قبل سقوطها أحد النتائج التي تمخضت عن الانحراف عن منهج الله، وقد كان لهذا الضعف مظاهر وصور منها:
الأنانية وحب الذات:
ــــــــــــــــــــ بعد أن قامت دولة ملوك الطوائف بعد الدولة الأموية في الأندلس تنافس أولئك على السلطة وانتشر بينهم العداء المستحكم والخصام الدائم، فالكثير منهم لا هم له الا تحقيق مصلحته الذاتية واشباع أنانيته ووجوده في السلطة ولو على حساب المسلمين!!
وقد أدرك هذه الحقيقة الكثير من المؤرخين لهذه المرحلة منهم: أبو حيان الأندلسي حيث قال: «دهرنا هذا قد غربل أهليه أشد غربلة، فسفسف أخلاقهم، وسفه أحلامهم، وخبث ضمائرهم...».
يقول المراكشي:
وصار الأمر في غـاية (الأضحوكة) والفضيحة، أربعة كلهم يتسمى بـأمير المؤمنين فـي رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخًا في مثلها.
وقال ابن حزم:
«اللهم اننا نشكو اليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن اقامة دينهم وبعمارة قصور يتركونها عما قريب، عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم...».
وقال في موضع آخر عنهم: «والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا اليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعًا فأخلوها من الاسلام وعمروها بالنواقيس».
التشبه بالعدو وتقليده:
ــــــــــــــــــ للمسلمين شخصيتهم المستقلة التي تميزوا بها عن غيرهم من الشعوب والأمم، وقد ظل مسلمو الأندلس خلال القرون الثلاثة الأولى لوجودهم في الأندلس محافظين على شخصيتهم تلك التي تأصلت فيها الأخلاق والقيم النبيلة، ولكنهم بعد أن دب الضعف فيهم وعصفت بهم الفتن، وضعف الوازع الديني عند بعضهم بدأوا بالتخلي عن بعض تلك الأخلاق والتأثر بأخلاق وعادات غريبة عليهم وعلى مجتمعهم.
ذكر ابن الخطيب أن جند مسلمي الأندلس تشبهوا بالنصارى في زيهم وأسلحتهم ولم يقتصر الأمر على هذا، بل ان بعض مسلمي الأندلس قلد النصارى في الاحتفال بأعيادهم ومناسباتهم الشركية، وهناك فئة أخرى كانت تحضر مجالسهم وتشاركهم أفراحهم من هؤلاء منذر ابن يحيى أمير سرقسطة فقد بالغ في التشبه بالنصارى وموالاتهم حيث كان يحضر عقود المصاهرة التي كانت تتم بين أبنائهم.
ولا شك أن لذلك أثرًا في كسر الحاجر النفسي بين المسلمين وأعدائهم، فزالت مهابة المسلمين عند النصارى حينما تخلوا عن أصالتهم وأخلاقهم الاسلامية حيث أصبحوا حقيرين في عين عدوهم وأقل من أن يهتم بهم.
الخلاعة والمجون:
ــــــــــــــــ وكان ذلك من أعظم الأسباب أثرًا في انهيار الدولية الاسلامية في الأندلس، حيث كان شرب الخمور والاستغراق في الملذات والاكثار من الجواري والنساء كان ذلك قاسمًا مشتركًا بين كثير من ملوك الطوائف، وغرقوا في مستنقع الفواحش والرذيلة، ويبدو هذا جليًّا لكل من طالع أخبارهم، واستغل هذا الأمر بعض الوزراء والموظفين الذين رغبوا أن يستبدوا بالحكم والسلطان.
وكان أهل تلك الفترة يتفاخرون بكثرة آلات الطرب والغناء، حيث يقولون عند فلان عودان أو ثلاثة وأربعة وأكثر من ذلك.
وامتد ذلك ليصل الى حد الاستخفاف بالدين عند بعض الناس، فقد ذكر ابن حزم أن ابراهيم بن سيار النظام كبير المعتزلة في الأندلس تعلق بحب غلام نصراني فألف له كتابًا في تفضيل التثليث على التوحيد تقربًا اليه!! مما سبق نتبين ان قصة خروجنا من الأندلس لم تكن قصة عدو قوي انتصر علينا بقدر ما كانت قصة هزيمتنا أمام أنفسنا ... قصة ضياعنا وأكلنا بعضنا بعضا كما تأكل الحيوانات المنقرضة بعضها بعضا... كان الترامي في أحضان العدو ممكنا ... وكان التنازل له عن الأرض ممكنا ... وكان الخلاف بين بعضهم وبعض لدرجة الاستنجاد بالعدو ممكنا ... أجل ... كان كل هذا ممكنا الا شيء واحد ... الا العودة الى الاسلام الصحيح الخالي من حب السلطة واستعباد الدنيا ... والأمر بالاعتصام بحبل الله وحده وعدم التفرقة ... كل شيء كان ممكنا - في عرفهم - الا هذا .
ما أشبه الليلة بالبارحة، فحالنا في هذه الأيام من جهة استعلاء عدونا علينا، وتمكنه منا انما هو منا، «قل هو من عند أنفسكم»، فقد بعدنا وبعدنا جداً عن ديننا وانتشرت رذائل الأخلاق بيننا وتشبهنا بل ووالينا أعداءنا وتفرقنا، ويوم أن نعود الى ديننا سيعود لنا عزنا «ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»
الجمعة، 10 مايو 2019
الاخلاق والحضارة ــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق