الجمعة، 28 سبتمبر 2018

خذ الحياة بقوة الشاعرة نجلاء عطية

خذ الحياة بقوّة
كانت تحاول أن تقول للمساء الحزين أنّها قادرة على تجاوز وحشته بالفناء في البديل....
إذ كانت تبقي النّافذة مغلقة والسّتائر مسدولة علّ عيونها تستردّ من المكان الذي أضحى قاسيا أرواحا دافئة لبّت فجأة نداء الرّحيل....
كانت أسيرة عالمها الضيق الذي لا يفتح ذراعيه إلا لرائحة القهوة وموسيقى الغجر والكتب المبعثرة هنا وهناك...
بدت في هذا المساء وهي تغطي جسمها الهزيل بغطاء صوفي في شوق عظيم إلى كتاب " النبي " لجبران.  وقبل أن تفتح صفحته الأولى سمعت طرقا خفيفا على الباب فكسا وجهها غشاء من الحيرة....
-"من تراه يكون؟"
"لا أريد مما تبقى من العمر سوى أن أحيا بلا مفاجآت..."
" لا أريد من هذا الباب المغلق سوى أن يرحمني من غريب قادر أن يبعثر عادات امرأة وحيدة علّقت كل آمالها في مساء بلا مرايا ولا شرفات..."
وحتى لا تتضاعف هواجسها، وجدتها تفتح الباب مسرعة والكتاب بيدها.  وقبل أن تنطق بحرف، قال لها مبتسما:
" أهلا! هل يزعجك أن أستدعي نفسي على فنجان قهوة أم تراني ضيفا ثقيلا على مسائك الحزين؟"
" أهلا وسهلا...بل قل أية نسمة طيبة حملتك إليّ وأيّة قدم جرّتك إلى بابي....؟"
تلعثمت الكلمات على شفتي أخيها وهو يجول بنظره في أركان الغرفة التي تشي جدرانها بوجع الحنين إلى ضحكات كانت تغص بها قبل أن تزفّ البهجة إلى مثواها الأخير، تاركة وراءها خدوشا عميقة بالروح وقد استحالت فاكهة الذكريات لغة معطوبة ونزيف معنى جريح...
وكي ينهي كأس الأسى الذي يشربه ترياقا كلما زار أخته قال:
" أقترح أن تحضري لي قهوة فأطرافي تكاد تتجمّد من شدة الصقيع "
كان يبحث من وراء ذهابها إلى المطبخ عن فرصة يستجمع فيها قوته كي يحقق الهدف الذي جاء لأجله...
نهض مسرعا وفتح النافذة على مصراعيها فهبت نسائم المساء معتقة برائحة أزهار الليمون وأنار الغرفة.  وكم بدا المكان في حاجة إلى لمسة تضع في مدفأة ورماد حطبا كي تشيع فيه دفء الحياة من جديد....
وما إن عادت إلى الغرفة حتى قادها باتجاه النافذة ووقفا ينظران إلى الأفق البعيد وكأنهما يبحثان عن شرفة أخرى ترمّم بقايا آمال مزّقتها الفاجعة واحتفظت بلونها الباهت تلك النّافذة المرهقة
كانت قاب قوسين من الانهيار حين قال لها:
"سنسافر معا لنقضّي عطلة بمدينة جميلة فنحن في حاجة إلى أن نستعيد من الرّخام أوراق حياتنا المتساقطة علّنا نشارك صغار الأماني رغبتها في الرجوع إلى قلوب العصافير..."
أظنها لم تسمعه أو هكذا صارت غير قادرة على تلبية الدّعوة ولكنه اصرّ قائلا:
" تعالي نجهّز حقيبتك الآن فلا وقت لدينا لمزيد من الوقوف على أطلال أمس رحل دون أمل في الرّجوع ".
استسلمت لإرادته ...
ربّما لم تكن المسكينة في حاجة إلى أكثر من دعوة كي تغادر قمقمها البائس...
ها هما يتجهان نحو السيارة وقد أجبرها على خطوة واسعة، خطوة تعيدها من غربتها إلى حضن الوجود.  ولم تجد أمامها سوى أن تهديه " نبي جبران "
نعم! ما بين وجع يضحك وفرح يبكي علينا أن نبقي على رغبتنا في أن نطير قبل أن نحترق ونصير أشلاء....
علينا أن نخترق الزمن الموجوع ونصنع لأنفسنا رغبة أخرى نعلنها صدفة خارقة تتجاوز كل المعاني المضمّنة بالكتب...
بقلمي: نجلاء عطية من تونس
( آخر عيون للنسيان)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق