الخميس، 29 مارس 2018

إفلاس بقلم الشاعرة خديجة اجانا

إفلاس

   يسمع وقع خطوات ثقيلة في الممر، يصرر أذنيه ، يحس بها تقترب من غرفته. يتوثب الدم في عروقه، يتسارع نبضه، تتسلقه من أخمص قدميه إلى رأسه قشعريرة... يسحب الغطاء إلى رأسه، ينكمش في سريره..." لقد اهتدوا إلى مكاني، من يا ترى وشى بي؟ قد تكون هي، نعم هي طليقتي ، آخر رد لها كان  ينطوي على وعيد.. ليتني لم أجن يومها و أستفزها بذلك الكلام..." يسمع طرقا خفيفا على الباب، يقطع النفس و يدفن رأسه تحت وسادته، يرتفع الطرق، يرتفع ضغطه و هواجسه... يسمع صرير الباب، يتسلل إليه نور خافت، ترفعه يد قوية و تطوح به أرضا. منبطحا،  يرى أحذيتهم الرفيعة. كانوا أربعة، يعادل وزن الواحد منهم أربعة أضعاف وزنه، بإمكانهم سحقه كحشرة حقيرة تحت أقدامهم ... يضغط أحدهم بحذائه على رقبته، يتأوه، يعالجه آخر بضربة على مؤخرته، يصرخ و يقبل حذاء الضاغط على رقبته. يرفعه آخر على كرسي، يرى وجوههم فترتعد فرائصه. "لن أنجو منهم هذه المرة.." يوثقون يديه و قدميه إلى الكرسي...
       يشعل سيجارة، يسحب نفسا عميقا، و ينفث دخانها في وجهه قائلا :" أ كنت تظن أننا لن نصل إلى جحرك يا عفن؟ أين المال؟ " يرد مستعطفا: "أرجوكم، أمهلوني بعض الوقت، بعت قطعة أرض، حالما يصلني المبلغ أسدد..." يسدد إلى فمه لكمة  قوية، تتناثر  أسنانه المنخورة و ينزف دمه..." كم أمهلناك، و أنت تضللنا متنقلا من جحر إلى آخر، و تغير  حانة بأخرى كلما تراكمت ديونك... فتشوا الغرفة. "
قلبوا غرفته البئيسة رأسا على عقب، لم يعثروا على شيء ذي قيمة؛ ملابس متعفنة في الخزانة، جرائد حال لونها، أوراق يانصيب، قنينات جعة فارغة، و أعقاب سجائر في كل ركن. سحب كبيرهم مسدسه،   وضعه بين عينيه، بصق على وجهه، و بصوت مجلجل زلزل كيانه قرر مصيره :"روحك مقابل دين القمار يا كلب. " علا صريخه و أخذ يستعطفه... ضغط على الزناد و... 
  ينهض من ركام كابوس، يتحسس فمه، يحس بحموضة في حلقه و برغبة في الاستفراغ ... يلملم شظاياه، يرفع ستارة النافذة، يطل على الشارع، يرى سيارة شرطة مركونة عند مدخل النزل، يحس بدوار شديد، يهرع إلى الحمام و يسترجع ما في أمعائه... ينظر إلى شقفة مرآة معلقة على الجدار، يلحظ جرحا ينزف بين عينيه و بقع دم على قميصه.. يعود إلى سريره، يحاول، عبثا،  أن يتذكر ما حدث في الحانة ليلة أمس، يبحث في جيوبه، ينفضها، لا شيء فيها... يغير ملابسه، ينزل و يسأل عامل الاستقبال :
- هل سأل عني أحد؟
- لا.. لكن..
- لكن ماذا؟ "
- أمس جيء بك محمولا و فاقد الوعي.. المدير يريدك أن تسدد و تفرغ الغرفة..
لم ينبس ببنت شفة. عاد إلى الغرفة و أخذ يفكر... منذ غادر العمل و هو يطرق أبوابا، استدان مبالغ مالية لم يعدها بعد، الدائنون يلاحقونه، و ها هو مدير النزل الوضيع يطالبه بالدفع و الإفراغ.
   تذكرها، أحلام، نادلة الحانة التي تردد عليها زمنا قبل أن يمنع من ولوجها، كان يواعدها، و كان ندي اليد معها، أعطاها مرة مبلغا ماليا كمساعدة حين أجريت  لأمها عملية، و كانت اعتبرته دينا...أحلام تلك، بعدما سرحت من العمل، باعت أسرار مغامراته لزوجته مقابل مائة درهم، و اختفت.
بحث عن رقمها في مفكرته، هاتفها، رد عليه رجل فأقفل الخط...
   دخل الحانة، انزوى في ركن، أشار إلى النادل، و كان يراه لأول مرة، فتجاهله. كان الرواد غرباء عنه، و كان يطمع أن يرى بعض الوجوه القديمة عله يجد لديهم ما يجودون به عليه، أو يجد أحلام فترد له المبلغ. أشار من جديد للنادل، فجاءه على مضض، سأله عن فلان و فلان ... و كان النادل ينفي أنه يعرف أحدا من هؤلاء. فختم بسؤاله عن احلام، فوجئ و ارتبك قبل أن يجيبه :"مدام أحلام صاحبة الحانة، تأتي في الثامنة.. طلباتك سيدي.. " أخفى دهشته، و أجابه على الفور :"في انتظار وصول مدام أحلام، سمك مدخن، سلاطة، و جعة." انشرحت أساريره، انفتحت شهيته، تسمرت عيناه على الباب و هو يفكر كيف لتلك الفتاة الفقيرة أن تمتلك هذا المحل في وقت وجيز، لكنه تذكر فدوى، تلك التي كانت ترتاد الحانة، تشرب كأسا مع هذا، و آخر مع ذاك، و تقضي الليلة مع آخر... تذكر كيف التوت كحية على شقيق صاحب الحانة، آنذاك، و تزوجته. قد تكون أحلام  لعبت بعقل أحدهم و ...
كان يدخن و يشرب بشراهة دون أن يغفل مراقبة الباب، و يحلم بانعتاقه من كوابيس الليل و النهار...
   تتلفع بمعطف فرو أنيق، تدخل، تتوسط مرافقيها الشخصيين، تجول نظراتها في المحل، تلتقي بنظراته، يبتسم لها، تعبس في وجهه، تتجاهله، و تدخل مكتبها... " كم تغيرت! أنا أيضا تغيرت.. هرمت و هزلت.. تساقطت معظم أسناني.. غزا الشيب رأسي و شاربي.. ربما لم تعرفني..."  يغيب النادل فترة، ثم  يأتيه بفاتورة ثقيلة، يهمس له :"أخبر المدام أنني أنتظرها. "يأتيه رده صادما :" ادفع الحساب و غادر، المدام لا ترغب في رؤيتك.." كان السكر قد بلغ منه مبلغه، فرفض أن يدفع و يغادر، و صار يصيح بأعلى صوته: " أحلام، يا بنت ال... الله يلعن أباك، أنت يا حثالة، ترفضين مقابلتي، سأفضحك... نسيت سيرتك الوسخة... ؟" يتداوله، ككرة، بينهما اثنان شديدان، يشبعانه ركلا و لكما، و يفرغانه كالقمامة في الشارع...

  خديجة أجانا /المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق