الخميس، 4 أكتوبر 2018

نموره ومشبك الشاعر فؤاد حسن محمد

نموره ومشبك
أن تحضر من كواليس الماضي فأنت صديق بائع النمورة والمشبك.
الذاكرة هي مفارقة العمر بين زمنين، وللصوت الخاص بأبي دبوق وهو يصيح مناديا الناس :
- نموره ومشبك .....نموره ومشبك
لذة في الذاكرة يسيل لها اللعاب،وكان في كل مرة يأتي يدخل بيتنا في صراع عائلي،وملاسنات ومشادات تنبعث منها رائحة الغضب، والدي الذي ينوء تحت حمل أعباء الفقر،وأنا وأخوتي الذي يجري في عروقنا فيضان من الجوع إلى السكر، نصاب بالعصبية والتشويش عند سماعنا ذلك النداء،لدرجة اتخذت كلتا عينا أخي شكل عوامتين،وأظن لو التقطت لهما صورة لأخذتا جائزة عالمية في مسابقة العيون المحرومة، سلطة وعز في تلك الحلويات.
عالم جديد ينفتح أمام عيوننا،في أول كلمة قالها والدي:
- لعنة الله على أبو دبوق لأبو الساعة التي ولد فيها.
لكن رأسنا يقول شيء آخر، أشياء تنمو ، أشياء طيبة المذاق،تستبدل ابتساماتنا بتكشيرة،توقظنا من إلفه الحرمان،إنها مناسبة تستحق أن نصرخ فيها من صعوبة العيش بدون طعم حلو،نريد أن نتمسك بشيء من أجل أن نكون سعداء،ولن يكون مهما إن حاول أحدنا أن يكون مسيئا بسبب ذلك.
أخذ أخي يقفز في مكانه متناغما مع ترنيمة " نموره... ومشبك" ثم أطلق أصواتا بدائية تشبه أولئك الذين يطاردون وحشا في الغابات:
أووووي..أوووووي...أويييي
تقدم والدي نحو أخي وضربه بقوة على صدره ، فوقع مستلقيا على ظهره، مرر لسانه على شفتيه وهو يلهث:
- هل جننت ...إعقل....وإلا سأضربك وأضربك حتى يخرج شيء من الأرض ويضربك
أتبع ذلك مع شبه تحريك لشفتيه:
- يمكن الاستغناء عن النموره ... لكن لا يمكن الاستغناء عن الخبز
الجوع يوقظ الذعر في خفايا العقل، اختفى العالم أمام أعيننا ولم نعد نرى إلا صورة والدي والنمورة والمشبك.
عيون أمي كي لا تنهزم ، بكت،تناثرت على وجنتيها غلالة من الدموع بلون الملكوت، دموع تشعرك بأنك صغير ومحاط بالبؤس،ويصير هاجسك ألا تتشوق وألا تتلاشى كظل يختلط بالضوء.
قالت والدموع تحترق تحت جفنيها:
- الأولاد مثلهم بحاجة إلى جرعة من السكر
-أغلقي فمك... اعرف أنهم بحاجة إلى خراء...
- هل تستطيع حضرتك لاستغناء عن التتن(التبغ)
-لا تتفلسفي ...وإلا
ورفع قبضته نحو الأعلى مهددا إياها بالضرب.
طرفت عينا أمي مرتين،وجفت حنجرتها.
شعر والدي بالانزعاج ،لم يفهم لماذا الكل ضده،نادرا ما يرى أمي تحتج، لكنه أدرك عندما يجتمع الأولاد حول الأم يصبح الأب ضعيفا.
فيما أخي مازال مستلقيا على ظهره،أذهله الكلام المفاجئ لأمي
مما جعله يقف بسرعة على قدميه ،ورأيته كما لم أراه من قبل،لحظة مسحورة،استدار ونظر إلى والدي كمن ينظر إلى خصم، برم وجهه يمينا وشمالا يبحث عن شيء، ثم التقط طاسة الستانلس، وضرب بها الحائط ،فسقطت تقرقع على الأرضية، مترافقة مع صرخة عالية حادة :
-أووووو ....أووووو
ولما وصل الحائط اتكأ عليه، ووضع رأسه بين يديه ورويدا رويد ملأ رئتيه حد الانتفاخ،وقذف هذا الانتفاخ بكاء متوحشا .
بينما أبو دبوق في الخارج وبعيدا عنا،يقود سيارته ببطء وهو ينعق كالغراب:
- نمورة..... ومشبك
وخلفه أولاد القرية يركضون ، قاطعين طريقا ترابية ،طويلة،قاسية، مليئة بالأشواك.
كان النداء يختفي فجأة ثم يعاود الظهور،صراخ في الخارج وصراخ في الداخل، ودون مقدمات أخذ والدي يتيقن أن للنمورة والمشبك كيانا يتطاول أعلى من رأسه ،بدأ يفكر في حل ،وهو يعاود كنه المشكلة،تملكه الغضب فجأة،واشتعل وميض رائع في عينيه ووجدناه يهدر بعناد وبغضب مكتوم:
_ يلعن أبوكم لأبو أبو دبوق ... الكلب ابن الكلب
أشارة تبدو أكثر شؤما ،تأخذ منا سحر الأمنية، تقودنا إلى مذبح التضحية ،وتخلينا مجردين من الشعور إلا من الانسحاق.
بدأنا جميعنا البكاء،بكاؤنا الغريب ، بكاؤنا المفزع،بكاؤنا المدلل لتلبية حاجتنا لشيء ما،يتصاعدا منفردا ومتناغما في خضم هذا التراكض اليائس،كأننا مسروقون من أنفسنا،سباق مع الزمن الطائر، قبل أن يتجاوز أبو دبوق بيتنا،تعالت صيحاتنا اليائسة:
- نريد نمورة ....ومشبك
النداء يقترب بسرعة موتورة،دقائق للحملقة بوجه الأب دون كلمة،هذا كل ما أمكننا الحصول عليه، لحظة بدت فيها أرواحنا تتدثر الخيبة ، الكل يستشعر أنه في خطر،أما والدي فقد غرق في هم لا طاقة له به، فأطرق برأسه ، ولم يرفع عينيه عن الأرض.
وعلى حين غرة دس يده في جيبه، وقال بصوت متألم وهو يخرج بقداسة قطعة نقدية:
- لا أملك سوى خمس وعشرون ليرة
تم دس كلتا يديه في جيبيه ، وقلب بطانتهما المنسوجتين من الموصلين الأبيض،وقال بصوت خاشع كالهمس:
- ليس في جيبي شيء
انبسطت يده وقذف بالقطعة المعدنية في الهواء،سمع لها رنينا وصل عنان السماء،أشرق وجه أخي بابتسامة وتهللت أساريره،وقد استطاع أن يلتقط القطعة المعدنية قبل أن تتوقف عن الدحرجة ،وأطلق ساقيه للريح ،مغتنما هبوب الريح،كان فم والدي مشدودا وقاسيا، لكني لا حظت أنه يود لو يبكي أيضا،قال وهو يعيد بطانة الجيبين :
- كيف يمكنكما فعل ذلك
لم نفهم أبدا ماذا يقصد.
وقف أخي الصغير على النافذة ووضع يديه على البلور المتسخ يحدق في الصوت،أصغى إلى حفيف إطارات السيارة وهي ترتاح قرب بيتنا كوحش ضخم،وخفقان موسيقى مكبر الصوت تتمدد بعيدا بعيدا،والجميع في لحظة تقرقر فيه معدتة بعنف.

فؤاد حسن محمد- جبلة - سوريا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق