السبت، 28 أبريل 2018

الضريح بقلم الكاتب / عمر بنحيدي

الضريح                                                                                                    
    تداعى كل سكان المدشر المتاخم لنهر اسيف المال(نهر المال ،بالامازيغية متجهين نحو النهر الوحش الذي استيقظ من سبات عميق طال كثيرا حتى ظن الجميع ان هذا السبات قد تحول الى موت أبدي. .القلوب تكاد تغادر الصدور  هلعا والاعين منفلتة من محاجرها محاولة  التقاط كل الجزيئات .لكن الالسنة اخرست من هول الصدمة . الكل مترقب لما يجري. بعد لحظات بدت ثقيلة وطويلة تمرد  صوت  مرتعش لشيخ يتكىء على عكازه:" اللهم يارب احفظنا .هذه المرة ليس كالمرات السابقة.".ردت عليه عجوز :"اشرف عمري على التسعين  ولم يسبق لي ان شاهدت مثل هذا المنظر..انه وحش مخيف ." بالفعل هذه المرة هديره يفزع الجميع .فلا احد يتجرا على الاقتراب لجمع اعواد الحطب او جذوع الاشجار .لا احد..... لا ... هناك من لا يبالي بهديره انه (ابو الشتاء).فقد اصر على عدم مغادرة مكانه ولو ان النهر قد يجرفه.. فليجرب ليري ماذا سيحصل له.سنون. كثيرة وهو يتحداه وما استطاع ان يفعل له شيئا.
  سألت طفلة صغيرة متشبثة بتلابيب جدتها :" جدتي ،مسكين سيدي ابو الشتاء!  سيجرفه النهر." واجهشت بالبكاء كانه من عائلتها.لكن جدتها نهرتها بشدة:"اصمتي انت دائما تقولين كلاما لا معنى له.فسيدي ابو الشتاء له بركته وكراماته ، اللهم يارب نفعنا بها." ثم غرقوا من جديد في لجة الصمت ،فهدير الامواج العاتية وانتفاخها كانها مارد ،راسه في السماء وذيله في الارض أستولى على قلوبهم وابتلع السنتهم.
لكن ما بال( ابي الشتاء) غير مهتم بكل ما يجري حوله ؟ .
   الحقيقة ان ( أبو الشتاء) هو ضريح لولي .يزوره الناس طلبا للاستشفاء من بعض الامراض كمرض المفاصل والطفح الجلدي الخ ....من هو؟  لا احد يعرف عنه شيئا ،سوى انه ضريح نبت كما تنبت النباتاات قرب نهرما.ولكن في المقابل الكل يشهد له بالبركة  على منح زائريه الشفاء..وما اكثر زواره من  النساء وخاصة العجائز اللائي يعانين من امراض المفاصل.ويؤكدن لكل من يساوره الشك في ذلك انه الى جانب النية لابد من اعداد القرى اومادبة باللهجة المحلية تسمى المعروف  .ويكون باعداد وجبة الكسكسي  باللحم وتوزيعها على  عابري  السبيل والمحتاجين ثم المبيت ليلة  واحدة على الاقل ،وسيكون الشفاء مضمونا.. ..بلغ صيت ( ابو الشتاء) مداشر بعيدة جدا سواء في اعلى الجبل او في المداشر الموجودة في السهل. ومن نفحاته ان  نهر اسيف المال لم يتجرا قط على انتهاك حرمته والدخول الى الضريح،رغم انه يحيطه من كل الجهات.
  وبينما سكان مدشر ايت بيهي  مستغرقون في تامل هذا المارد الذي فك عقاله وصار مهددا لكل من يجرؤ على الاقتراب منه.اقبلت رقية وهي زوجة الحاج ادريس نحوهم مولولة نائحة. التفتوا يستطلعون السبب.وقبل  وصولها صاحت:" عادل  وفضيلة" تساءلوا: عادل وفضيلة!"
لم تكد تكمل حتى وصل الحاج ادريس وهو شيخ وقور بعمته ولحيته البيضاء وجلابيبه الفاخرة بيده عكاز من الخيزران ما ان اقترب حتى افسح له الجميع الطريق.كل السكان يحترمونه ،شيبا وشبابا.اسرع الاطفال كعادتهم للسلام عليه: " الله يرضى عليكم اوليداتي". مد لهم يده  يقبلونها وتوجه بالكلام الى زوجته :" لاىيمكن لعادل ان يفعل هذا." واجابته وهي تنتحب،:"" شاهدهما العربي ولد عباس لما دخلا الضريح."وبعد لحظات قليلة من الترقب اقبل سليمان وزوجته فاظمة:" الله الله على بنتي بلعها النهر!" واسترسلت في معزوفة مشروخة من النحيب  رغم محاولات زوجها والحاج ادريس.وبصوت اجش وصارم اسكتها زوجها :" هذه تربيتك لابنتك.هذه هي نتيجة الفشوش ، المحبة الزايدة .والان ماذا عساي اقول للحاج ادريس ؟ ." :" انتوما عملتم لي اي اعتبار؟ " وزكت زوجته كلامه:" نعم الحاج ،خيرا تعمل شرا تلق." والجميع متحلق حولهم ينصت ويتتبع حركات وسكنات الشخوص الاربعة وكانهم  فوق خشبة مسرح.وسرعان ما بدات الالسنة تحكي وتزوق الحكاية.فمن قائل ان ابن الحاج ادريس اختطف فضيلة بنت الخماس.ولما وصلا وسط النهر داهمتهما الحملة فابتلعتهما .ومن قائل ان ام فضيلة زوجة الخماس عملت للشاب سحر عند احد الفقهاء ليتزوج ابنتها ويتحولوا من خماسة الى اصحاب ارض. وكلام كثيرتناسل في الحلقات الثانوية المحيطة بالخشبة المفترضة.
   السعدية هي الوحيدة التي تعرف ما جرى ولماذا؟ ولهذا تقدمت بشهادتها لرجال الدرك الذين حضروا على اجنحة السرعة :" فضيلة اختي  اكبر مني بعامين.وهي تحكي لي كل شيء. نحن نسكن في مزرعة الحاج ادريس.ابي سليمان يعمل عنده كخماس. والحاج يعاملنا كبناته من صلبه  وعادل ابنه كاخ لنا.تربينا معه .نذهب للمدرسة معا ونلعب معا.وهو اختي لايفترقان  .انهما يحبان بعضهما...." سمعتها رقية  ام عادل  :" ماذا يحبان بعضهما ؟ هل هذا ممكن؟ ابن الحاج ادريس يتزوج ابنة خماس ،؟" وقبل ان يسكتها دركي صاح الحاج ادريس :" لايمكن لايمكن" : سياتي دورك للحديث اصمتي الان .تابعي يا ابنتي :" كانا يقضيا جل اوقاتهما وسط أغصان شجرة الزيتون بعيدا عن الاعين. ولما وافق ابي على تزويجها للعطار الارمل ،بكت ليلتين متتاليتين .وأخبرت عادلا بالامر ،جن جنونه وفي مخبئهما قررا الهروب . الى اين ؟ الله اعلم.".
 بدأت الشمس تافل ومعها الضريح الذي  صار محاطا بالماء من كل جهة.فاشرابت الاعناق من جديد وبصوت واحد وبشكل عفوي صلى  الجميع على رسول الله صلى الله عليه وسلم :. "  اللهم صلي عليك يا حبيب الله  " واباء الشابين سيجنان من هول الصدمة.لم يصدقوا العربي الابعد ان اكد  لهم انه حاول ثنيهما عن ذلك لكنهما أصرا  على الزواج من بعضهما البعض..أوت  الشمس الى مضجعها بعد يوم صيفي قائظ لتترك المجال  للقمر لكنه هذه الايام ياتي متاخرا وسرعان ما يمل الوحدة فتراه مهرولا الى الجهة الاخرى. .. اسدل الليل ستوره واضطر السكان العودة الى بيوتهم ماداموا عاجزين عن فعل اي شيء.حتى رجال الدرك انسحبوا ومعهم العائلات خوفا من تهور أحدهم.
بقي النهر وحده يهدر وفي جوفه الضريح حيث لجأ العاشقان .لم يدر في خلدهما ان الحملة ستفاجئهما وهما بداخله...حتى الباب رفض ان يفتح .انزويا مذعورين في احد الاركان قرب القبر .شلت ألسنتهما فاكتفيا بالتحديق في القبر وكانهما يستنهضانه.  عادت بهما الذاكرة الى طفولتهما .فعشقهما بدا منذ المدرسة الابتدائية .بعدها جاءت مرحلة وسط اغصان الزيتون. وكان حبهما عفيفا كحب الاخ لاخته.لم يتحول الى فكرةالزواج الالمااراد ابوها ان يرغمها على الزواج من العطار الارمل.مرة مرة يتحسسان ارضية الضريح  فقد يكون الماء قد تسرب .أليه...
   غفت اعينهم لحظة ليجدا نفسيهما فوق صهوة جواد عربي اصيل والولي الصالح يقوده  وهما يسيران فوق النهر دون ان يبتلا...وضعهما قرب شجرتهما.وودعهما بحركات من يده..
     ما ان وصلت العائلتان البيت حتى وجدوهما بالباب.لا احد صدق  حكايتهما، ولكن ما قاله الحاج ادريس فجر العائلتين تفجيرا : ""لايمكنهما الزواج لانهما اخوة.""
   فقد كان يكلف سليمان الخماس بمهمات تتطلب السفر  ويوهم زوجته رقية  انه هو ايضا مسافر ليخلو بزوجة الخماس التي تقبل عن طيب خاطر.
    مرت شهور على الحادثة. وعاد النهر الى سباته  المالوف .وذات صباح ولج  احد الرعاة  الضريح ليتقي أشعة الشمس اللافحة،فصدم مما اكتشف.لا احد صدقه الا لمارأى الناس باعينهم ان القبر  لم يكن  به رفاة انسان  وانما كان مدفونا به صندوق وحلل  ملأى بالمال والدهب.
             انتهت
 بقلمي :عمر بنحيدي.                                                   28/4/2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق