الأحد، 26 أغسطس 2018

الطفل والمرياع الشاعر وليد ع العايش

_الطفلُ والمرياع _
________
الوقت يقرع باب الصيف بقوة؛ أواخر الربيع تحاولُ التشبُث أكثرَ بسفينةِ الرحيل؛ نسماتٌ تختلِط ببعضها كما عرسٍ اجتازتْ فيه النسوةُ حاجز الخوف , فاقتحمنَ عالم الرجال المذكّر؛ الظهيرةُ تبدأ بجمعِ بقاياها تأهباً لمغادرةٍ قسرية. البيتُ الريفيُّ المصنوع من الطوبِ والطين يقبعُ على مسافةٍ قريبة ؛ الفلاحُ الأسمر ذو العيون الزرق كمصابيح ليلٍ خالٍ من الغيوم جاوزَ عقدهُ الخامس, لتوّه ينهي علاقته مع الحقل المُصفرّ الوجه؛ حملَ فأسهُ متجهاً إلى حظيرة الأبقار؛ لقد حان موعد الغداء.
- إنني جائعٌ يا امرأة ... هلا أعددتِ الطعام ...
- نعم ... انتظرْ لحظات فقط ... سأنادي على الأولاد ...
- إذن سوف أدعو جارنا الراعي كي يتناول الطعام معنا ... فهو دائما لا ينسانا من الحليب واللبن ...
- حسناً تفعل ... لعله جائع ( كأنت ) هو الآخر , ويحتاج إلى استراحة من حرارةِ الشمس ...
كان الراعي هناك بالقرب من البيت؛ قطيعهُ يلتهمُ بقايا الموسم؛ عيدانُ القشّ التي نبتتْ من جديد لا تبدو أليفة؛ زوادتهُ اليومية تنتظرُ على ظهرِ الحمار؛ بينما جرسُ ( المرياع ) يعزِفُ لحنهُ المعتاد ...
- هييييه ... أبو حنظل ... تعال ... الطعام جاهز ...
- وهل أتركُ الأغنامَ وحدها يا جاري ...
- لا عليك ... سأطلبُ من ابني الصغير مراقبتها ريثما تنتهي ...
- إذن أنا قادم ... رمى الراعي بالعصا على طرفِ الساقية؛ تفقّدَ قطيعهُ بنظرةٍ سريعة ؛ لم يكن هناك ما يوحي بالخوف من أيّ شيء .
غسل يديه ثمّ ولج إلى ( الليوان ) ؛ لحظاتٌ فقط وكانت الأسرة مع الضيف الستيني تتحلّقُ حول المائدة؛ لمْ ينس أبو حنظل أن يُكررَ ظرافته؛ مَسحَ قطعةً من الخبزِ بالفلفلِ الحار ودسّها خِلسةً مع رغيفِ جاره الذي كانَ يكرهُ ( الفلفل الحار ) ...
- يا إلهي ماهذا !!! ... آه منكَ يا أبا حنظل ... لن تترك عاداتك ... ضحكَ الجميعُ , بينما أبو عمر يجرْعُ الماء بنهمٍ كي يتخلّصَ من الحرارةِ التي اندستْ في جوفه.
لم ينتبهوا إلى ما كان يجري في الخارج ؛ تلبدتْ السماءُ فجأة؛ الغيومُ تهاجِمُ السماءَ بضراوة؛ النسائمُ المتأرجحة تتحولُ إلى صقيعٍ يجتاحُ المكان؛ البرقُ بدأ باختلاسِ النظرِ من خلفِ الأفق؛ توارتْ الشمسُ مُرغمةً؛ دويُّ الرعد حضرَ الآن ...
- يا إلهي إنّها العاصفة يا أبا عمر ... الأغنامُ ... الأغنام ...
- هيا ... هيا ... لننظر ماذا يجري ...
عندما أصبح الرجلان في قارعة الطريق ؛ كانتْ حباتُ البرَد تقصفُ وجهَ الأرض؛ اهتزّت الجذور المتبقية؛ الوحلُ أصبح في خِضمِّ العاصفة؛ الأغنامُ تلتحِفُ بعضها البعض؛ ثُغاءها يصمُّ الآذان؛ بعضها افترش الثرى المتعطش للهزيمة , وربما كانَ مُتعطشاً للدمِ أكثر؛ لا مكان للاختباء ...
- الأغنام تموت يا أبا عمر ... هات السكين ... اِلحقني ...
- ناوليني السكين يا أم عمر وتعالي ... هاتي المعطف كي أحتمي من حبات البرَد , إنّها كالحجارة ...
اشتغلتْ سكينُ أبو عمر؛ وخنجرُ أبو حنظل؛ الدماءُ تمتزجُ بالطينِ وبعض البرَدِ الهارب من المعركة , دقائق لم تتجاوز العشرة انقضتْ؛ العاصفةُ المنبعثة من قعرِ السماء سكتتْ لتوّها ؛ رحلتْ الغيوم تاركةً خلفها قطعياً مُشتتاً ما بين ميتٍ ومذبوح ومُصاب ؛ وآخرَ يلفظُ أنفاسه باستهزاء ...
نظر أبو حنظل إلى القطيع؛ وإلى جارهِ الذي كانَ يواري وجههُ خلف معطفٍ شتويٍّ أسود ؛ انتهى كلّ شيء ... بحثَ الطفلُ المُكلّفُ بالمراقبة عن ( المرياع ) ...
- أين هو ... من يومها اختفى لحنُ الجرس , واختفى المرياع ؛ بينما كانت دموع الراعي , وجاره , تحتسيان مرارة حباتِ البرَد , أحضرتْ الزوجةُ كأسين من الشاي الساخن ...
_______
وليد.ع.العايش
8/8/2018م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق