الأربعاء، 29 أغسطس 2018

التأملات الفلسفية في رباعيات الشاعر عمر الخيام بقلم الأسير الفلسطيني كميل أبو حنيش

"التأملات الفلسفية في رباعيات الشاعر عمر الخيام"

الأسير الفلسطيني/ #كميل_ابو_حنيش
تُشّكل رباعيات الشاعر/ عمر الخيام معلماً فريداً بارزاً في تاريخ الشعر العالمي، وتكاد أشعاره تلامس العبقرية؛ لما تنطوي عليه من تأملاتٍ فلسفيةٍ عميقةٍ ارتباطاً بمرحلته التاريخية، فضلاً عن جمالية نظم هذه النصوص وأسلوبها وما تحمله من دلالات وتساؤلات وجودية تؤرق الإنسان في كل زمان ومكان.
وبهذا، فإن هذه الرباعيات متقدمة عن مرحلتها التاريخية وعابرة للثقافات والمعتقدات، هنا تكمن أهمية هذه النصوص وما حظيت به من اهتمام في مختلف الثقافات.
هو غياث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم الخيام المعروف بـ(عمر الخيام)، ولد سنة 1048م في نيسابور عاصمة خراسان في عهد السلطان أرطغرل أول ملوك السلاجقة، وتنَقَّل بين عدة أقاليم ومدن أبرزها: مرو، وسمرقند، وكان مهتماً بعلوم الفلك، والرياضيات والهندسة، إلى جانب اهتمامه بالأدب، وتوفيَ سنة 1131م.
أما رباعياته الشعرية فهي معروفة اليوم ومترجمة إلى مختلف اللغات العالمية منذ أكثر من مئة عام بعد إعادة اكتشافه بعد أن غمرته قرون من النسيان، وكاد أن يطمس إلى الأبد، والعثور على هذه الرباعيات التي كتبت باللغة الفارسية.
قبل عشر سنوات استوقفني كتاب ملقًى بإهمال في إحدى زوايا مكتبة "سجن ريمون" الإسرائيلي، كتاب مهترئ يمتلئ بالغبار ومعنون باسم <<رباعيات عمر الخيام>>.
في الحقيقة لم يسبق لي أن طالعت رباعيات عمر الخيام كاملة سوى بعض النصوص المتناثرة هنا وهناك، في بعض الكتب الأدبية إضافة إلى الأغنية التي غنتها أم كلثوم المعروفة برباعيات الخيام.
إذن، كان عثوري على هذا الكتاب أشبهَ بالعثور على كنز طالعته عدة مرات ولم يحالفني الحظ بالاحتفاظ به مدة طويلة، بَيْدَ أنِّي سجلت بين دفاتري عدداً من هذه الرباعيات، ومن المؤسف أنه ضاعَ معظمها في رحلة التنقلات بين السجون ولم يتبقَّ منها سوى القليل، الذي لا يصلح لإجراء دراسة أدبية في رباعيات الخيام، إلَّا أنه قد يصلح في تسليط بعض الإضاءات على بعض الزوايا التي لم يعالجها النقد الأدبي العربي لهذه الرباعيات من قبل.
وقبل الشروع في هذه المعالجة المتواضعة أجد من واجبي الإشادة بالشاعر العراقي المبدع/ أحمد الصافي النجفي، الذي تصدَّى لترجمة وتعريف رباعيات الخيام بصورة مبدعة حتى لا نكاد نميزها عن النصوص الشعرية العربية مستخدماً مفردات عربية ملائمة تماماً لهذه النصوص، مع محافظته على الوزن الشعري الذي غالباً ما يضيع لدى ترجمة الشعر الأجنبي إلى اللغة العربية.
مما يجدر الذكر، بأن رباعيات الخيام في هذا الكتاب مترجمة مرتين: مرة من قبل الشاعر المصري/ أحمد رامي، ومرة من قبل الشاعر العراقي/ أحمد الصافي النجفي، ولدى المقارنة بين الترجمتين سنجد أن ثمة اختلاف بين الترجمتين وسنجدها لدى النجفي أفضل منها لدى أحمد رامي، وربما يعود السبب إلى أنَّ النَّجفي قد ترجمها من الفارسية إلى العربية، فيما يبدو أن أحمد رامي قد ترجمها من لغات أخرى إلى العربية، وعلى أيَّةِ حالٍ سنعتمد على ترجمة النجفي فيما سنلجأ إلى ترجمة أحمد رامي في بعض النصوص.
***
أولاً: التساؤلات الفلسفية:
يصدر الخيام عدداً من الرباعيات في مضامينها، حصيلة التأملات الفلسفية العميقة للوجود يقول في هذه الرباعيات: سِرُّ الْحَيَاةِ لَوْ أَنَّهُ يَبْدُوْ لَنَا لَبَدَا لَنَا سِرُّ الْمَمَاتِ الْمُبْهَمُ لَمْ تَعْلَمَنَّ وَأَنْتَ حَيٌّ سِرَّهَا ... فَغَداً إِذَا مُتَّ مَاذَا تَعْلَمُ ؟
يضع الخيامُ يدَه على السُّؤال المركزي للوجود الذي يؤرق كل إنسان عن سر الحياة والوجود، وبهذا النص يبدو الشاعر متشككاً فيما حملته المعارف والفلسفات والمعتقدات الدينية، التي تصدت لتفسير الوجود، كما أنَّه ينفي عن الإنسان قدرته على فك هذا اللغز لحياته القصيرة، والأرض كما أن هذا اللغز لا يصل الإنسان إلى حله حتى بعد موته.
ويضيف في رباعية أخرى: ليس لذا العالم إبتداءٌ يبدو ولا غايةٌ وحَّد...ٌ ولم أجد من يقول حقاً: من أين جئنا وأين نغدو؟ فالعالم بالنسبة للخيام قديم أي أزلي ليس له بداية، كما أنه أبدي ليس له نهاية، كما أنَّهُ ليس لهذا العالم أي غاية، وهنا يبدو الشاعر في هذه الفلسفة منتمياً إلى الفلسفة المادية التي تنفي حدوث العالم وتؤكد على سرمديته. والحياة على هذه الأرض ما هي إلا صدفة.
وفي البيت الثاني يضع يده على السؤال الوجودي الإنساني من أين جئنا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ ثم نجده في بيت آخر يدعو الإنسان أن يعيش حياته القصيرة ويمتصَّ رحيقها حين يقول: ألاَ اغْنَمْ قَصِيرَ الْعُمْرِ لَسْتَ بِنَبْتَة ... تَعُودُ فَتَنْمُو بَعْدَ مَا هِي تُحْصَدُ أَلاَ إِنَّ مَنْ زَانُوا الْوُجُودَ بِخَلْقِهِمْ"، فالحياة إذن مرة واحدة ولا بعث بعد الموت وعلى المرء أن يعيشها كما هي.
ويضيف في رباعية أخرى: "غَدَوْنَا لِذِي الأَفْلاكِ أَلْعَابَ لاعِبٍ أَقُولُ مَقَالاً لَسْتُ فِيهِ بِكَاذِبِ عَلَى نَطْعِ هَذَا الْكَوْنِ قَدْ لَعِبَتْ بِنَا وَعُدْنا لِصَنْدُوقِ الْفَنَا بِالتَّعَاقُبِ".  فماذا يعتزم الخيام أن يخبرنا بهذا التأمل؟ أيود القول بأن الصدفة هي التي جاءت بنا إلى هذه الحياة؟ وأن الكواكب والأفلاك وحركتها هي التي هيأت الحياة على هذه الأرض؟ أم أننا مجرد لعبة تنتهِ بالموت؟ فهذه الرباعية تنطوي على سخرية من معنى الوجود والغاية منه، وكأنَّ وجودنا كبشر في هذا العالم لا معنى له.
ثم يضيف بذات اللهجة السَّاخرة ذات المضمون الفلسفي العميق وهو يتساءل عن معنى الوجود: مَنْ بَرَى أَكْؤُسَ الرُّؤُوْسِ وَأَبْدَى ... عِنْدَ تَكْوِينِهَا أَدَقَّ الْفَنُوْنِ
كَبَّ كَأْساً مِنْ فَوْقِ مَائِدَةِ الْكَوْنِ دِهَاقاً قَدْ أُتْرِعَتْ بِالْجُنُوْنِ. يتأمل الخيام الإنسان كإحدى إبداعات الخلق، ويركز على الرأس تحديداً، ويتساءل عن خلق هذا الإبداع بهذه الدقة والجمال والروعة؟ فمن أوجد هذه الرؤوس؟: الوجوه الفائقة الجمال، العيون، الآذان، الفم، العقل ..الخ؟ وهذه التركيبة المعقدة.
وإزاء هذه الدهشة والذُّهول ينتقل الخيام إلى مفارقة ساخرةٍ حين قال( كب كأسًا) وكأنَّ لحظة خلق الإنسان قد اكتست بالعبث والجنون، وأن مبدع هذا الإنسان كان في لحظة نشوة حين اندلقت كأسه على حين غرة ليخرج لنا هذا الخلق الجميل، أو أنه يود أن يقول أن خلق الإنسان كان خطأً جسيماً( بهاقا قد اترعت بالجنون)، ومن زاوية ثانية قد يكون أراد الخيام أن يقول: أن ثمة صدفة هي المسؤولة عن وضع الرؤوس أي الحياة عموماً إذ أن الكون قد دلق كأساً، أي بذرة الحياة على هذا الكوكب، وأنَّهُ يأسف لهذه النتيجة الَّتي أثمرت هذا الكائن الفاسد والشرير.
ويقول في رباعية أخرى: "لَيسَ يَدْرِي سِرَّ الْوُجُودِ ابْنُ أُنْثَى ... وَبِتَكْوِينِهِ تَحَارُ الْعُقُولُ مَا أَرَى لِلْفَتَى سِوَى الرَّمْسِ مَثْوىً ... وَهْوَ لَهْفِي حِكَايَةٌ سَتَطُوْلُ". الخيام ينفي إمكانية معرفة أيٍّ من البشر سر هذا الكون الذي لطالما حيّر العقول، وفي البيت الثاني يؤكد على حقيقة بديهِيَّةّ تعكس مأساويةَ الإنسانِ؛ لأنَّ مصير هذا الكائن ليس سوى الموت، وهو مع كل أسًى وحزنِ الشاعر، هي النهاية الحتمية، والحقيقة المأساوية، التي لا حقيقة غيرها.
ثم يواصِلُ في رباعية أخرى: "إن الذين ترحلوا من قبلنا نزلوا بأحداث الغرور وناموا
أشرب وخذ هذه الحقيقة من فمي كل الذي قالوا لنا أوهام". إذن، حسب الشاعر فإنَّ كُلَّ المعارفِ والفلسفاتِ والمعتقدات هي مجرَّدُ أوهامٍ.
ويكرِّرُ في رباعيةٍ أخرى، ويواصل الغزل على ذات المنوال: إِنَّ الأُلَى بَلَغُوا الْكَمَالَ وَأَصْبَحُوا مَا بَيْنَ صَحْبِهِمُ سِرَاجَ النَّادِي..لَمْ يَكْشِفُوا حَلَكَ الدَّيَاجِي بَلْ حَكَوا أُسْطُوْرَةً ثُمَّ انْثَنَوْا لِرُقَادِ"، إذن، كل ما قيل على ألسنة من جاؤوا بالفلسفات، والمعتقدات، والمذاهب: هي مجرد أوهام وأساطير..
***
ثانياً: الإحساس العميق بالوجودِ الإنسانيِّ:
لدى الخيام إحساس عميق بالوجود وبالمأساة الإنسانيةِ- وهي تواجِهُ قَدَرَ الموتِ-ونجده يهتف في إحدى الرُّباعيات: "كُلُّ ذَرَّاتِ هذهِ الأرْضِ كانَتْ ... أَوْجُهاً كَالشُّمُوسِ ذاتَ بَهَاءِ... أُجْلُ عَنْ وَجْهِكَ الغُبَارَ بِرِفْقٍ ... فَهْوَ خَذٌّ لِكَاعِبٍ حَسْنَاءِ".  هذا التراب والغبار هو بقايا أجساد أسلافنا من البشر الَّذين تحللت أجسادُهم منذ آلافِ السنين، وهي دعوةٌ للإنسانِ أنْ يتأمَّلَ ويعتبرَ حقيقةَ سَلَفِهِ، وحياةَ مَنْ سَبَقَهُ الَّذين تحوَّلُوا إلى مجردِ غُبارٍ، وبذلك يستدِرُّ عطف الإنسان، ويشْركُهُ في إحساسه؛ كي يخرجَ من لامبالاتِهِ؛ لأنَّهُ سيصيرُ كما صارَ مَنْ سَبَقَهُ من البشر.
ويكرر أيضاً قائلاً: "اجلس بزاهي الروض وارتشف الطلا ... فالروض ينبت من ثرانا في غد". هذا الروض تنبت أشجاره وأزهاره ونباتاته على بقايا جسد الإنسان، وعلى أجسادنا ستواصل هذه الأشجار النمو في قادم السنين.
ثم يكرر في رباعية أخرى:" يُدَقِّقُ ذَلِكَ الْخَزَّافُ فِكْراً بِصُنْعِ الطِّيْنِ تَدْقِيقَ الْفَهِيمِ... إِلاَمَ يَسُوْمُهُ دَوْساً وَلَكْماً يَخَالُ الطِّينَ غَيْرَ ثَرَى الْجُسُومِ ؟ ". هذه الأواني الخزفية التي يصنعها الخزاف هي أيضاً بقايا رفات للأجسام الَّتي سبقتنا في الحياة حيث انتهت وتحلَّلت.  وهو بهذه التأملات يكشف عن إحساسٍ إنسانيٍّ مُرْهَفّ، ويدعو الإنسانَ إلى مشاركته هذا الإحساسَ المأساويَّ، وسخف النِّهاية التي سيؤول الإنسان إليها عموماً.
***
ثالثاً: التشاؤم من الوجود:
تأملاتُ الخيام الفلسفيةُ أوصلته إلى التَّشاؤم من الوجود والوصول إلى حافَّةِ العدم.
يقول في إحدى الرُّباعيات:
لا يورث الدهر إلا الهم والكمدا ... واليوم إن يعط شيئا يستلبه غدا
من لم يجيئوا لهذا الدهر لو علموا ... ماذا نكابد منه ما أتوا أبدا
فالحياة كلها آلامٌ، ومنغصات، ومتاعب، وهذه الحياة ليست فرصةً جميلةً لمن كان لهم حظٌّ بالوجود، بل على العكس إنَّها مكابدةٌ، ويتمنى الشاعرُ لو أنَّهُ لم يأتِ إلى هذه الحياة.
ويكرر في رباعية أخرى:
“إن لم يكن حظ الفتى في دهره .. إلا الردي ومرارة العيش الردي”
“سعد الذي لم يحيَ فيه لحظًة .. حقاً وأسعد منه من لم يولد”
وفي هذا يمكننا القولُ: إنَّ الشَّاعرَ يعتنقُ فلسفةَ التشاؤم من الوجود إلى الحَدِّ الَّذي دفَعَهُ للقول  بأنَّ مَنْ لمْ يُحالفْهُ الحظُّ في الحياة ولو يولد هو حتماً أكثر سعادةً من الإنسان الذي يحيا؛ لأنه يُمْضي حياتَهُ تَعِساً".
ثم يخاطب الإنسانَ ويواصِلُ ذَمَّ هذه الحياة القصيرة الخالية من أيِّ معنًى اذ يقول:
لَئِنْ جَالَسْتَ مَنْ تَهْوَاهُ عُمْراً ... وَذُقْتَ جَمِيْعَ لَذَّاتِ الْوُجُوْدِ
فَسَوْفَ تُفَارِقُ الدُّنْيَا كَأَنَّ ... الَّذِي شَاهَدْتَ حُلْمٌ فِي هُجُوْدِ
حتى وإنْ عاش الإنسانُ بسعادةٍ وهناء فإن مأساته تكمُن في نهايتهِ: أي أنَّهُ سيموت، وأنَّ من عاشه بسعادة هي مجردُ حُلْمٍ سريعٍ سينتهي سريعاً بحضور الموت.
وفي رباعية أخرى يدعو إلى العزلة والتأمُّلِ في هذه الحياة إذْ يقول:
يَا زُبْدَةَ الْخِلاَّنِ خُذْ نُصْحِي وَلاَ ... تُصْبِحْ مِنَ الدُّنْيَا بِهَمٍّ مُزْعِجِ
وَاجْلُسْ بِزَاوِيَةِ اعْتِزَالِكَ وَانْظُرَنْ ... أَلْعَابَ دَهْرِكَ نَظْرَةَ الْمُتَفَرِّجِ
وهي دعوةٌ استسلامية أمامَ الدهر وتصاريفِهِ بعدَ إدراك حقيقةَ الحياةِ والاعتزالٍ عن كل ما يُنَغِّصُ النَّفْسَ من همومٍ وأحزانٍ، وكأنَّهُ يقولُ: إنَّ كُلَّ ما هو كائِنٌ في حياتِنا كَقَدَرٍ. هو مسألةٌ قدريَّةٌ لا يمكنُ تغييرُها، والأجدرُ بالإنسان أنْ يستسلمَ تماماً؛ لأنَّهُ لا يملكُ أيَّةَ إمكانيةٍ لتغيير الواقع.
***
رابعاً: الدعوة إلى العبث والحياة بسعادة:
يصل الخيام إلى استنتاج بأن هذه الحياة خالية من المعنى وبأننا نعيشها رغماً عنا، فيتعين علينا الاستمتاع بها والاستسلام للخلاعة والمجون والعبث وأن نقتنص لحظات الهدوء والسعادة، ونجده يدعو إلى العشق والتلذذ بالنساء " أَسَفاً لِقَلْبٍ لَيْسَ يُذْكِيهِ الْهَوَى شَغَفاً وَلَيْسَ يَهِيمُ قَطُّ بِشَادِنٍ، لاَ يَوْمَ أَضْيَعُ قَطُّ مِنْ يَوْمِ امْرِئٍ يَقْضِيهِ دُوْنَ غَرَامِ ظَبْيٍ فَاتِنِ ".
ثم نجده يستنكر عذابات الحب؛ لأنه لا معنى للحب وأن على المرء أن يعيش حياة حسِيَّةً كاملة فيقول: إِلَى مَ أَسَاكَ عَلَى الْفَانِيَهْ ... أَنَالَ امْرُؤٌ عِيشَةً بَاقِيَهْ؟... هِيَ النَّفْسُ عَارِيَةٌ تُسْتَرِدْ ... فَعِشْ مَعْهَا عِيشَةَ الْعَارِيَهْ" فهو يدعو لعيش هذه الحياة كما هي والابتعاد عن الآلام والأحزان.
وفي ترجمة أحمد رامي نجده يواصل قائلاً:" أطفئ لظى القلب ببرد الشراب
فإنما الأيام مثل السحاب... وعيشُنا طيفُ خيالٍ فنل حظك منه قبل فوت الشباب".
ويواصل أيضاً قائلاً: "عِشْ راضيًا واهجر دواعي الألم، واعدل مع الظالم مهما ظلم، نهاية الدنيا فناء فَـعِشْ فيها طليقًا واعتبرها عدم". إذن، على المرء الاستسلام وعدم الاحتجاج على الواقع مهما كان مفجعاً وقاسياً لأن الحياة زائلة ويتعين علينا أن نعيشها متحررين من أي ضوابط؛ لأنَّها في نهاية المطاف ستؤول إلى العدم.

***
خامساً: التراجع والتوبة:
على ما يبدو أنَّ الخيَّامَ يتراجعُ عن كُلِّ ما قاله وَيُعْلِنُ توبَتَهُ، ولا ندري إن كانت هذه الرباعيات قد خطَّها الشَّاعر في أواخِرِ حياته، أم في شبابه؟ ونجده يخاطب الخالِقَ:
إِلهِي قُلْ لِي مَنْ خَلا مِنْ خَطِيئَةٍ وَكَيْفَ تُرَى عَاشَ الْبَرِيءُ مِنَ الذَّنْبِ
إِذَا كُنْتَ تُجْزِي الذَّنْبَ مِنِّي بِمِثْلِهِ فَمَا الْفَرْقُ مَا بَيْنِي وَبَينَكَ يَا رَبِّي
ثم يخاطبه هذه المرة ويسأله الغفران:
أَنَا عَبْدُكَ الْعَاصِي فَأَيْنَ رِضَاكَا وَلَقَدْ دَعَى قَلْبِي فَأَيْنَ سَنَاكَا
إِنْ كَنْتَ تَمْنَحُنَا الْجِنَانَ بِطَاعَةٍ يَكُ ذَا لَنَا بَيْعاً فَأَيْنَ عَطَاكَا
ثم يضيف في رباعية أخرى:
قَدْ كَانَ يَدْرِي الْلَّهُ كُلَّ فِعَالَنَا ... مِنْ يَوْمِ صَوَّرَ طِينَنَا وَبَرَانَا
لَمْ نَرْتَكِبْ ذَنْباً بِدُوْنِ قَضَائِهِ ... فَإِذَنْ لِمَاذَا نَدْخُلُ النِّيْرَانَا ؟
***
وفي الختام لابد من الدعوة إلى الاهتمام برباعيات هذا الشاعر العظيم، فهي تحتاج إلى مزيد من الرباعيات الأدبية حتى وإن كانت هذه الرباعيات الشعرية لا تنتمي إلى اللغة العربية، إلا أنها تظل تنتمي للثقافة العربية الإسلامية، وتبقى نصوصاً تعالج أدب تلك المرحلة التاريخية، وسنجد عشرات الشعراء العرب الَّذين نظموا أشعارهم بذات المضمون الفلسفي الذي تضمنه شعر الخيام ومن أبرزهم: أبو العلاء المعري، والحلاج، وابن عربي، وأبو العتاهية، وأبو نواس وآخرين. وهي مرحلة تاريخية وصلت فيها الثقافة العربية إلى النُّضْجِ قبل أن تستسلم أمام قرونٍ من الانحطاط.
انتهى ...
    #كميل_ابو_حنيش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق